موضوع: غــزة تعتــذر.. لم تعُــد تحـلم! الأربعاء أبريل 02, 2008 10:27 am
غــزة تعتــذر.. لم تعُــد تحـلم!
بيت آل "عطا الله" بعد القصف سبت 2/3/2008... سيبقى محفورا في تاريخ غزة وحتما لن يغادرها، كما سيختبئ ذات التاريخ في ركن ثابت بذاكرة قلبي.
فجره جاءني محملا بالأخبار العاجلة تحمل في طياتها رائحة الموت والدماء... وما إن كانت ترتفع الشمس في كبد السماء حتى كان الأمر يزداد تعقيدا، والأيادي على القلوب تهتف بالقادم: "إن جئت فكن رحيما"..
أناملي على لوحة المفاتيح صاحت بالحروف أن تلهمها شيئا من السرعة ولكن هيهات، فقد أصابها العجز أمام قصف الأنباء المحملة بـ"الدمع والآه"...
ثمانية شهداء من عائلة مراسلة "إسلام أون لاين" بغزة
ما معنى كلمة "شهيد"؟؟ ...الإجابة في غزة!!
غــــزة حـزينة... سماؤها تبــكي
الدقائق تمر ببطء مخيف... ثوانيها كما الأعوام... وعيون هذه المدينة الجميلة أدمتها الدموع وما عادت تحتمل؟ إنها هنا
طائراتٌ بمختلف ألوانها وأرقامها تحوم في سماء غزة لا تغادرها تقذف حمم حقدها على كل ثابت ومتحرك، وعلى الأرض دبابات شظاياها تبتر الأحلام وتحيلها إلى فتات..
قلمي نزف دمعه لكثير من العائلات الثكلى ووقف على أنقاض بيوتهم يحكي للعالم عن قصة محتل بغيض يكره الطفولة ويطارد الفراشات... ولكن ما لم أكن أعلمه أنا وقلمي أن بانتظارنا مفاجأة و... مفاجأة ثقيلة جدا.
الخامسة عصرا وشمس غزة الحزينة تلوح بيدها مودعة وأشعتها بخجل تهدهد عيوننا الغاضبة: "لعلي آتيكم غدا بفرح"... 50 شهيدا... 60 والدماء في ازدياد...
رفعت بصري نحو السماء فلمحتها.. طائرة من نوع "إف 16" تسير بجنون، مساكين يا أهل الشمال: "همست لنفسي"؛ كنت أظن أن طريقها لـ"جباليا الصمود"... أخرجت لي لسانها قائلة: "أنا هنا"...
رسائل الفاجعة تقترب
أعترف أن اللغة ستخونني ومفردات الضاد ستحزم أمتعتها هاربة، ولن تفلح بإجادة ما جرى ساعتها.. "غمامة سوداء كبيرة انتشرت في المكان... صراخ يتعالى من كل حدب وصوب لدرجة خلت فيها أن الدنيا -كل الدنيا- تصرخ.. زجاجٌ يتكسر.. وغبار داكن اخترق الأنوف والأثاث...".
صاروخ.. الثاني فالثالث.. ودار عمي تحولت لركام.. تهاوت كقصر من الرمال بناه طفل وباغتته موجات الشاطئ..
مذ تخرجي وعملي في بلاط صاحبة الجلالة كنت أذهب لتغطية لحظات وتفاصيل ما بعد الموت.. هذه المرة ما "قبل" وما "بعد" وما بينهما.. كل اللحظات كانت في انتظاري...
يدي نحو هاتفي المحمول أحاول الاتصال بقلوب أخشى عليها فأصطدم بـ"عفوا لا يمكنك الوصول"... والغمامة فوقي تكبر وتخنقني.
المذياع بارتباك يأتي بالخبر العاجل: "القصف لمنزل يعود لعائلة "عطا الله".. رنات الهواتف تنهمر: "القصف أين؟"، "هل أنتم بخير"، "من المستهدف".. أسئلة كما المطر ولا إجابات.
سيارات الإسعاف تقترب بأصواتها... وآلاف الشباب يهرولون يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ورسائل الفاجعة تقترب: "البيت ذهب بمن فيه"...
حزنٌ فاخر
يطل أخي ثيابه كساها الغبار ووجهه غلفه الحزن أباغته بـ"أهناك شهيد" تنهيدة حارة و "آه يا علا.. أهو شهيدٌ فقط؟!".
أترك العنان لدموعي.. أنظر نحو السحاب الذي شوهته طائرات الغدر.. يرن في أذني صوت الرائع "إسماعيل هنية": "إن تآمرت عليكم الأرض.. فعليكم بالسماء".. أكتم صرخة خوف احتلت جسدي: "رفقا بنا يا سماء".
حولي الأطفال يبكون أكبرهم في العاشرة وأصغرهم لم يبلغ العام.. وجوههم لونها أصفر لا احمرار فيها... عيونهم غائرة وقلوبهم الصغيرة بارتجاف تسأل: "أين المفر"... حضن ماما ما عاد آمنا... وسرير غرفتي مطلوبٌ للاحتلال.
مساكين هم.. شفاههم تعزف سيمفونية الخوف والألم ليل نهار، يتركون بيوتهم مع عائلاتهم ابتعادا عن القصف ليعودوا مع الفجر لتبدأ رحلة البحث عن بقايا ذكريات.
رويدا رويدا يخفت صوت الرعب ليستحيل إلى صدمة وذهول، بشيء من الجرأة وفضول الصحفية سارعت لإلقاء نظرة لمكان الحدث و... "آه ألف آه لا تكفي!!"..
طوابق الدار من ألفها إلى يائها انهارت.. قطراتٌ من الدم تستوقفني تعلن عن رائحة موت مرت من هنا..
"كان لي بيتٌ هناك.. وأحلى.. أحلى ذكريات" مقطع لأنشودة أبلغ ما يمكن أن يقال لما أراه أمامي من ركام ودمار.. أسفل ذاك الحزن الفاخر أخرجوا جثة عمي "عبد الرحمن" 65 عاما وجدوا رأسه مفصولا عن جسده.
بقايا ذكريات
"سعاد" زوجته لطالما داعبته بحب: "اللهم اجعل يومي قبل يومك.. لا أريد أن أعيش الحياة دونك". يضحك عاليا ثم بابتسامة حانية يجيبها: "ومن يدري ربما يومنا واحد".
يا الله لقد ذهبا إلى الجنة معا... كم أحسدهما على هذه النهاية، نعم في القلب غصة، ولكن لهذين العجوزين ألقيت وردة وابتسامة.
خالد "33" عاما عانق قبل عشرين يوما طفله البكر "أنس" وحمله بين ذراعيه بزهو، وزع الحلوى.. وأخذ يرقب أيام الصغير.. متى تمر لتأتيه بـ"بابا.. وصحبة أول يوم دراسي..".
أنس صغيري لقد مات أبوك.. كل الأمنيات لك بالشفاء، وأنت تصارع الموت.. أمك المصابة المكلومة، تحتاجك فعجل إليها.
"إبراهيم" يا أيها البسام دوما والحنون على قلبك السلام، صغارك أقسموا بالثأر والانتقام وأنهم سيسيرون على ذات الدرب.. أطفال الحارة سيسألون عنك وعن يد حنونة تمسح على شعرهم وشوارعها الضيقة ستشتاق لك..
ابتسام يا ابنة العم أخرجوا جثمانك بعد 12 ساعة تحت الأنقاض... دوما كنت أهمس في أذنك: "لك من اسمك ألف نصيب!!".. ما فارقت البسمة يوما وجهك.. ابتسمي الآن وبالغي في الابتسام.
أيتها العروس.. عفوا
رجاء أيتها المحامية: ما أقصر الأحلام في غزة تمر كما السحاب، سامحيني على جدالي الدائم معك حول المحاماة والصحافة، كنت أفخر بالأخيرة وأتهم الثانية، نتجادل وأسوق البراهين على أيهما الأجمل والأجدر بالبقاء.
لا أحب ضوضاء الأعراس وحفلات الخطوبة غير أني وعدتك بحضور حفل خطبتك القادم بعد أيام، أسفل الركام وجدوك، وفستان الأحلام كما أنت... فتات!!.
"أحلى عروس أريد أن أكون" غمزت لكل الصبايا حولك، وبخجل العذراء همس صوتك: "إنه حلمي". آه يا رجاء.. وأدوا الحاء واللام والميم؛ فعذرا لقلبك ولأمنيات كثيرة كانت تسكن ثنايا عقلك.